متابعة : محمود عبد الرحيم
يقول أحد الموظفين بشأن التغافل الذكي : عندما ترقيت إلى منصب مدير، كان من ضمن الموظفين عندي شابٌ نشيطٌ جداً ، وناجحٌ في عمله ، وكان يقوم بكل ما
يطلبُ منه بذكاءٍ وسرعةٍ ودقةٍ ، كما أنه يحقق نسبةَ إنجازٍ عاليةً ، لكنه كان لعوباً إلى حد ما فلقد كان يغادرُ مقرَّ عملهِ كثيراً بدون إذن ، حتي أن إجازاتُه وأذوناتُه
أكثر من المُعتاد ، ذاتَ مرة تقدّم الشاب بإجازة ليسافر مع أصدقائهِ في رحلةلكنني رفضتها.
فما كان منه إلا أن تقدَّم بإجازةٍ مرضيةٍ ، وأتصل مدعياً المرض معتذراً عن الحضور؛ ولأنني أعرف أنه ليس مريضاً ، ذهبتُ صباحاً إلى بيته وأنتظرتُ هذا
الشاب باكراً ثم قابلته وهو يحمل عدّة الرحلات، كاد الموظف يذوبُ خجلاً ، ووجههُ يتقلّب بين الخجلِ والحرج للأسف ، بينتُ له أنه لم يكن قادراً على خِداعي ،
وأنني لستُ بتلك السذاجة التي يظنُّها وبرهنت له أنه كاذب ،وخصمتُ عنه أجرَ اليوم مضاعفاً، لكن ماذا حدث بعد ذلك بعد أيامٍ ؟
تقدَّم الشابُّ بإستقالته ومن وجهة نظري أنني خسرتُ جُهده ونسبةَ الإنجاز العالية التي كان يُحققها ، ولم يعُد بالإمكان أن أرفع لإدارتي العليا نسبَ الإنجاز السابقة ،
وصرتُ بحاجةٍ للبحث عن شاب يمكنه أن يحقِّق ذات الإنجاز وهم قليل ، لقد كان سؤ تقدير وتصرف مني ، فما الذي إستفدتُه من ذلك.. ؟
ومنذ ذلك اليوم إكتشفت أنَّ بعض ما نخسره في حياتنا ، يكون بسبب التضييق على الآخرين ، وإغلاق منافذ الهروب ؛ ما يجعل الطرف الآخر، أمام خيارين :
إما أن يهربَ مِنك وتَخسر جهده أو يتخذك عدواً ؛ فيكيدُ لك وسيتراجع نشاطه كنوع من الدفاع عن النفس ، وفي كلتا الحالتين ستكونُ خاسرا" .
لذلك، أجدُ أنه من المناسبِ أن تختارَ اللحظةَ ، لتسمحَ للطرفِ الآخر أن يتراجَع ، أن يهربَ بِكرامة ، فبعضُ التغافل مفيدٌ جداً. لن تكون منتصراً فعلياً فيما لو
كشفتَ المرء أمامكَ وأمام نفسه حد التعرية ، حيث لن يجد بداً من المواجهة أو الهروب ، فالتجمُّل و التّغافل هو ورقة التوت التي تسترنا وتحمينا. ليس الغافل بسيد
في قومه لكن سيد قومه المتغافل الأفضلُ دائماً أن تفتحَ لخصمكَ طريقاً يخرجُ منه كريماً فيحترمُك ، بدل أن تُحرجه فيُعادِيك.
لا يُشترط أن تفوزَ بكل المعاركِ فبعضُ الفوزِ هزيمة ، ولا تُحرق مراكبكَ أبداً ، فقد تحتاجها قريباً ، وهذا ما يحتاجه كل أب وأم ولكل زوج وزوجة وكل الإخوه
والأصدقاء وكل مدير ومديرة ومعلم ومعلمة ، فلابد أن تكسب الجميع بنوع من التغافل الذكي والتجاوز ، وذلك ليس غباء ، بل هو منتهي الذكاء والفطنة.